ماذا تعرف عن فلاسفة الإسلام الحقيقيين؟
1- هناك ظاهرة لا يغفلها مراقب للحالة الثقافية العربية، وهي الانكباب الكبير الحاصل من قبل الشباب العربي المثقف على كتب الفكر والفلسفة الغربية، مع إهمال الفكر الإسلامي والكتب التأسيسية فيه، مع أنها غنية جدا ولا يصح أن يجهلها أبناء الحضارة الإسلامية. قد تجد المثقّف العربي يخجل مثلا إن لم يكن يعرف شيئا عن أفكار أرسطو ونيتشه وجون لوك، ولكنه لا يخجل إطلاقا إذا كان لا يعرف شيئا عن أفكار الحسن البصري والشافعي والجرجاني وابن تيمية وابن الوزير والشاطبي والقرافي وغيرهم. وهنا نطرح السؤال: هل هناك فلسفة إسلامية أصيلة؟ وهل حضارتنا فقيرة بالفلسفة والأفكار مقارنة مع الحضارة الغربية؟
2- ثمّة ادعاء بأنّ حضارتنا فقيرة بالأفكار، وأن فلاسفة الغرب ومفكّريه ما اشتهروا إلا لأصالة أفكارهم وتجديديّتها. وهو ادعاء مغلوط، وإنّما السبب في انتشار هذه الأسماء الغربية هو هيمنة الحضارة الغربية على العالم، وهو السبب أيضا في اهتمامنا نحن بهذه الأفكار والفلسفات. إنّنا ندرس هؤلاء الفلاسفة الأوروبيين اليوم كمؤسسين لأنّ حضارتهم هي التي هيمنت على العالم. ولو كانت حضارتنا هي المهيمنة اليوم، لحلّ الشافعي والحكيم الترمذي وعبد القاهر الجرجاني وابن حزم وابن عبر البرّ والقرافي وابن تيمية والشاطبي وابن خلدون وغيرهم مكان أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وجون لوك وديكارت وسبينوزا وكانط وهيوم وهيغل ونيتشه في جامعات العالم!
3- إنّ أحد أبرز الأدلة على ما أقوله أنّنا حين التفتنا إلى تراثنا العربي، وأردنا أن ننتشل منه شخصيات معبّرة عن "الفلسفة الإسلامية"، كانت هذه الشخصيات ممسوخة الهوية الإسلامية، ولها تبعيّة شبه تامّة للفلسفة الإغريقية التي يعتزّ بها الغربيّون اليوم! لقد ركّزت حركة الاستشراق على إبراز "الفلاسفة المسلمين" (كما تمت تسميتهم) كالكندي والفارابي وابن سينا باعتبارهم هم الممثلين للفلسفة الإسلامية، وذلك لكونهم قد تبنوا قواعد الفلسفة الإغريقية، وهي نظرة فيها تعالٍ غربي، فلسان حالهم في هذه النظرة: أنّ الفلسفة الحقيقية هي الفلسفة الإغريقية التي يراها الغربيون إرثهم الفلسفي، وإهمال وجود فلسفة خاصة للأمة الإسلامية. فبقية الجهود الفكرية والتأصيلية في مختلف العلوم الإسلامية لم تُعتبر فلسفة الأمة الإسلامية الخاصة بها، مع أنها هي فلسفتها الخاصة بها في الواقع.
4- لقد تناولت الفلسفة الإغريقية والغربية مجالات مختلفة، بدءًا من الإلهيات والخلق والوجود، مرورا بفلسفة الخير والشر والقبح والجمال، وصولا إلى فلسفة العلوم والفلسفة السياسية وغيرها. ولقد كان الإنتاج المعرفي الإسلامي قد تناول هذه المجالات جميعًا خارج إطار "الفلسفة" التي وُسم بها الفلاسفة المسلمون. فلماذا لا يُعتبر هذا الإنتاج المعرفي "الأصيل" فلسفة إسلامية؟ وأين نحن من استلهام هذه الفلسفة الخاصة بالأمة والبناء عليها؟
لقد طرح بعض الباحثين المسلمين المعاصرين -مشكورين- فكرة أنّ فلسفة الأمة الإسلامية تتمثّل في علم الكلام وعلم أصول الفقه. ولدى التحقيق في هذه المسألة رأيتُ أنّنا لسنا ملزمين أصلا بإيجاد مقابلات للفلسفة الإغريقية أو الغربية، بل كثير من مساحات الفلسفة مطروحة في الإسلام في الكتاب والسنة، وقد استمدّ المسلمون تصوراتهم عنها منهما. فأمة الإغريق لم تكن أمة كتاب، ولذلك كانت فلسفتها البشرية تخوض في قضايا مثل الخالق الموجِد الأول، ومثل كيفية خلق العالم، ومثل الخير والشر، وغيرها من القضايا.
ولكن بالنظر إلى الحضارة الإسلامية نجد أن هذه القضايا مجاب عنها في الإسلام أساسا، فقد أجاب القرآن عن أسئلة الفطرة الأربعة: من أين أتينا (المنشأ)؟ لماذا أتينا (الغاية)؟ كيف نعيش (المنهج)؟ إلى أين نذهب بعد الموت؟ (المصير). وهي تغطي جملة كبيرة من المسائل التي بحثها فلاسفة الإغريق، مع التأكيد على دور علماء الإسلام ومفكريه في بناء علومهم وفلسفتهم الخاصة على الوحي.
5- وهنا نكرّر السؤال: هل حقّا هناك فلسفة إسلامية؟ ومن هم فلاسفة الإسلام الحقيقيين؟
لقد كان كتاب الله هو الكتاب الأول الذي صاغ لهذه الأمة فلسفتها حول الله والإنسان والحياة والكون والتاريخ، وعلى هذا الهدى من الوحي، اجتهد مئات العلماء ليؤسسوا الفلسفة الإسلامية الأصيلة، التي تميّزت عن بقية فلسفات العالم باعتمادها على الوحي، وبشخصيّتها الفريدة وطرائقها المستقلّة. ولم تكن هذه الفلسفة هي ما صُدّر إلينا من فلاسفة على أنهم هم فلاسفة الإسلام الحقيقيّون؛ كابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد وغيرهم، وإنما كان الفلاسفة الحقيقيون في تاريخ الأمة الإسلامية هم أئمة الفقه والحديث والعقائد والأصول واللغة والتصوّف والسياسة. هؤلاء هم الذي عبّروا عن فلسفة الإسلام، وهم الذين رفدوا المعرفة الإنسانية بفلسفة أصيلة خاصة بهذه الأمة، ومن ثم كانوا مستحقّين لوصف "فلاسفة الإسلام الحقيقيين".
ونحن حين ننظر إلى التاريخ الإسلامي سنجد زادا هائلا من النصوص والمعارف المحفوظة، سنجد في البدايات المبكّرة عمرَ بن الخطّاب (23 هـ) رائدا للعدل السياسي والاجتماعي، وفيلسوفا حقيقيا في شأن العدالة والمبادئ السياسية. وسنجد الحسن البصري (110 هـ) رائدا للتيّار الروحي في الإسلام، معبّرا عن فلسفة روحية خاصة تختلف وتتمايز عن سائر الفلسفات الروحية في العالم. وسنجد الشافعي (204 هـ) رائدا التشريع الإسلامي بجدارة، معبّرا في كتابه "الرسالة" عن منهجية مبتكرة في استخلاص التشريعات وبنائها على أصول الوحي.
وسنجد القاسم بن سلام (224 هـ) رائدا للاقتصاد الإسلامي، معبّرا في كتابه "الأموال" عن التصوّر الاقتصادي الإسلامي والموارد الاقتصادية للأمة الإسلامية. وسنجد ابن عبد البرّ (463 هـ)، وهو الفقيه وعالم الحديث، معبّرا في كتابه الشهير "جامع بيان العلم وفضله" عن أسس فلسفة العلوم الإسلامية. وسنجد عبد القاهر الجرجاني (471 هـ) رائد فلسفة اللغة في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
وسنجد القرافي (683 هـ) الفيلسوف الأصولي ورائد الفروق والفصل بين السلطات، معبّرا عن منظور فكري سياسي متقدّم ومبكّر مقارنة مع الفكر الأوروبي في كتابه "الإحكام". وسنجد ابن تيمية (728 هـ) رائدا للعقلانية الإسلامية، معبّرا عن مدرسة عقلانية كما في كتابه الكبير "درء تعارض العقل والنقل" وغيره من الكتب مخالفة في منهجيّتها ومعاييرها للمنطق الأرسطي. وسنجد ابن القيم (751 هـ) مجدّدا للروحية والتصوّف الإسلامي في كتبه العديدة. وسنجد الشاطبي (790 هـ) فيلسوفا للشريعة مكمّلا لما بدأه الشافعي ومضيفا عليه في مرحلة بدأ الفكر الإسلامي فيها بالهبوط.
وسنجد ابن خلدون (808 هـ) فيلسوفا في التاريخ والاجتماع في مقدمته الشهيرة. وسنجد ابن الوزير (840 هـ) فيلسوف العقيدة والسنّة.
ليس من المخجل أبدا ألا تعرف شيئا عن فلسفة أرسطو وأفلاطون ونيتشه وديكارت وهيجل وغيرهم، بل العيب كل العيب ألا تعرف بأنّ لأمّتك فلسفتها الخاصة وفلاسفتها الأصلاء، وألا تحاول أن تقرأ شيئا من كتبهم، وألا تقدّر هذا الإنتاج المعرفي في ضوء عصره وظروفه، ثم تبذل جهدك للبناء عليه في ضوء معطيات عصرك ومتطلّباته الفكرية والروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
إنّنا بحاجة إلى إعطاء تراثنا وإنتاجنا المعرفي من الجدّية والتقدير والاهتمام كما نعطي للآخرين، حينها فقط يمكن لنا أن ننهض بفكرنا وأن نعود لنقدّم للبشرية إنتاجا معرفيّا أصيلا. وإنّني أحلم باللحظة التي أجد فيها كتاب "الرسالة" للشافعي أو "الموافقات" للشاطبي أو "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البرّ في أيدي المثقّفين، يتم تناولها بالقراءات والنقد، وتُعقد حولها الندوات والملتقيات، وتُستخلص منها الأفكار والرؤى.
4- لقد تناولت الفلسفة الإغريقية والغربية مجالات مختلفة، بدءًا من الإلهيات والخلق والوجود، مرورا بفلسفة الخير والشر والقبح والجمال، وصولا إلى فلسفة العلوم والفلسفة السياسية وغيرها. ولقد كان الإنتاج المعرفي الإسلامي قد تناول هذه المجالات جميعًا خارج إطار "الفلسفة" التي وُسم بها الفلاسفة المسلمون. فلماذا لا يُعتبر هذا الإنتاج المعرفي "الأصيل" فلسفة إسلامية؟ وأين نحن من استلهام هذه الفلسفة الخاصة بالأمة والبناء عليها؟
لقد طرح بعض الباحثين المسلمين المعاصرين -مشكورين- فكرة أنّ فلسفة الأمة الإسلامية تتمثّل في علم الكلام وعلم أصول الفقه. ولدى التحقيق في هذه المسألة رأيتُ أنّنا لسنا ملزمين أصلا بإيجاد مقابلات للفلسفة الإغريقية أو الغربية، بل كثير من مساحات الفلسفة مطروحة في الإسلام في الكتاب والسنة، وقد استمدّ المسلمون تصوراتهم عنها منهما. فأمة الإغريق لم تكن أمة كتاب، ولذلك كانت فلسفتها البشرية تخوض في قضايا مثل الخالق الموجِد الأول، ومثل كيفية خلق العالم، ومثل الخير والشر، وغيرها من القضايا.
ولكن بالنظر إلى الحضارة الإسلامية نجد أن هذه القضايا مجاب عنها في الإسلام أساسا، فقد أجاب القرآن عن أسئلة الفطرة الأربعة: من أين أتينا (المنشأ)؟ لماذا أتينا (الغاية)؟ كيف نعيش (المنهج)؟ إلى أين نذهب بعد الموت؟ (المصير). وهي تغطي جملة كبيرة من المسائل التي بحثها فلاسفة الإغريق، مع التأكيد على دور علماء الإسلام ومفكريه في بناء علومهم وفلسفتهم الخاصة على الوحي.
5- وهنا نكرّر السؤال: هل حقّا هناك فلسفة إسلامية؟ ومن هم فلاسفة الإسلام الحقيقيين؟
لقد كان كتاب الله هو الكتاب الأول الذي صاغ لهذه الأمة فلسفتها حول الله والإنسان والحياة والكون والتاريخ، وعلى هذا الهدى من الوحي، اجتهد مئات العلماء ليؤسسوا الفلسفة الإسلامية الأصيلة، التي تميّزت عن بقية فلسفات العالم باعتمادها على الوحي، وبشخصيّتها الفريدة وطرائقها المستقلّة. ولم تكن هذه الفلسفة هي ما صُدّر إلينا من فلاسفة على أنهم هم فلاسفة الإسلام الحقيقيّون؛ كابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد وغيرهم، وإنما كان الفلاسفة الحقيقيون في تاريخ الأمة الإسلامية هم أئمة الفقه والحديث والعقائد والأصول واللغة والتصوّف والسياسة. هؤلاء هم الذي عبّروا عن فلسفة الإسلام، وهم الذين رفدوا المعرفة الإنسانية بفلسفة أصيلة خاصة بهذه الأمة، ومن ثم كانوا مستحقّين لوصف "فلاسفة الإسلام الحقيقيين".
ونحن حين ننظر إلى التاريخ الإسلامي سنجد زادا هائلا من النصوص والمعارف المحفوظة، سنجد في البدايات المبكّرة عمرَ بن الخطّاب (23 هـ) رائدا للعدل السياسي والاجتماعي، وفيلسوفا حقيقيا في شأن العدالة والمبادئ السياسية. وسنجد الحسن البصري (110 هـ) رائدا للتيّار الروحي في الإسلام، معبّرا عن فلسفة روحية خاصة تختلف وتتمايز عن سائر الفلسفات الروحية في العالم. وسنجد الشافعي (204 هـ) رائدا التشريع الإسلامي بجدارة، معبّرا في كتابه "الرسالة" عن منهجية مبتكرة في استخلاص التشريعات وبنائها على أصول الوحي.
وسنجد القاسم بن سلام (224 هـ) رائدا للاقتصاد الإسلامي، معبّرا في كتابه "الأموال" عن التصوّر الاقتصادي الإسلامي والموارد الاقتصادية للأمة الإسلامية. وسنجد ابن عبد البرّ (463 هـ)، وهو الفقيه وعالم الحديث، معبّرا في كتابه الشهير "جامع بيان العلم وفضله" عن أسس فلسفة العلوم الإسلامية. وسنجد عبد القاهر الجرجاني (471 هـ) رائد فلسفة اللغة في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
وسنجد القرافي (683 هـ) الفيلسوف الأصولي ورائد الفروق والفصل بين السلطات، معبّرا عن منظور فكري سياسي متقدّم ومبكّر مقارنة مع الفكر الأوروبي في كتابه "الإحكام". وسنجد ابن تيمية (728 هـ) رائدا للعقلانية الإسلامية، معبّرا عن مدرسة عقلانية كما في كتابه الكبير "درء تعارض العقل والنقل" وغيره من الكتب مخالفة في منهجيّتها ومعاييرها للمنطق الأرسطي. وسنجد ابن القيم (751 هـ) مجدّدا للروحية والتصوّف الإسلامي في كتبه العديدة. وسنجد الشاطبي (790 هـ) فيلسوفا للشريعة مكمّلا لما بدأه الشافعي ومضيفا عليه في مرحلة بدأ الفكر الإسلامي فيها بالهبوط.
وسنجد ابن خلدون (808 هـ) فيلسوفا في التاريخ والاجتماع في مقدمته الشهيرة. وسنجد ابن الوزير (840 هـ) فيلسوف العقيدة والسنّة.
ليس من المخجل أبدا ألا تعرف شيئا عن فلسفة أرسطو وأفلاطون ونيتشه وديكارت وهيجل وغيرهم، بل العيب كل العيب ألا تعرف بأنّ لأمّتك فلسفتها الخاصة وفلاسفتها الأصلاء، وألا تحاول أن تقرأ شيئا من كتبهم، وألا تقدّر هذا الإنتاج المعرفي في ضوء عصره وظروفه، ثم تبذل جهدك للبناء عليه في ضوء معطيات عصرك ومتطلّباته الفكرية والروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
إنّنا بحاجة إلى إعطاء تراثنا وإنتاجنا المعرفي من الجدّية والتقدير والاهتمام كما نعطي للآخرين، حينها فقط يمكن لنا أن ننهض بفكرنا وأن نعود لنقدّم للبشرية إنتاجا معرفيّا أصيلا. وإنّني أحلم باللحظة التي أجد فيها كتاب "الرسالة" للشافعي أو "الموافقات" للشاطبي أو "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البرّ في أيدي المثقّفين، يتم تناولها بالقراءات والنقد، وتُعقد حولها الندوات والملتقيات، وتُستخلص منها الأفكار والرؤى.
للكاتب :
الأستاذ: شريف محمد جابر
الأستاذ: شريف محمد جابر